الفوضى الاستشفائيّة بدأت: وقف تغطية شركات التأمين

الفوضى الاستشفائيّة بدأت: وقف تغطية شركات التأمين

تم النشر بتاريخ: 10/05/2021

كتب علي نور في المدن: ما إن خرج إلى العلن خبر تجميد معاملات تمويل استيراد المستلزمات الطبيّة في مصرف لبنان، حتّى عمّ اضطراب كبير في المختبرات الطبيّة وشركات التأمين والمستشفيات والشركات المستوردة. التطورات الأخيرة توحي بأن البلاد ستكون على أعتاب فوضى استشفائيّة كبيرة، تهدد شركات التأمين والشركات المستوردة بالإفلاس النهائي، وتضع المواطن أمام واقع يعجز فيه عن تأمين كلفة المستشفيات والمختبرات الطبيّة. ما نحن أمامه اليوم، هو بالتحديد سيناريو الصدمة العنيفة التي حذّر منها الجميع منذ أشهر، بعد تقاعس الجميع عن اتخاذ الخطوات المطلوبة لاستباق لحظة استنفاد احتياطات المصرف المركزي. أما الغائب الأهم، فهو حكومة دياب، المستقيلة حتّى من مهامها كحكومة تصريف أعمال.

المختبرات الطبيّة: وقف معاملات التأمين
صباح يوم السبت، وبعد ليلة واحدة من انتشار الخبر، أبلغت معظم المختبرات الطبيّة المرضى المستحصلين على موافقات مسبقة لإجراء الفحوص، قرارها وقف التعامل مع شركات التأمين مؤقتاً، إلى حين إعادة التفاهم مع شركات التأمين على تسعيرة الخدمات المقدمة من قبلها. مع العلم أن آليّة الموافقات المسبقة كانت تقضي سابقاً باستحصال المريض على مستند من شركة التأمين، يطلب من المختبر إجراء الفحوصات على مسؤولية شركة التأمين ونفقتها، على أن يحصّل المختبر أتعابه لاحقاً من الشركة. ومع تعطيل آلية الموافقة المسبقة، سيكون أمام المرضى خيار وحيد، وهو دفع كلفة الفحوص بالسيولة النقديّة، ووفقاً لأسعار جديدة مضاعفة، على أن يحاول المرضى تحصيل هذه الفواتير لاحقاً من شركات التأمين. مع الإشارة إلى أن تحصيل قيمة الفواتير بعد دفعها مسألة غير مضمونة للمرضى، بعد تغيير قيمة التسعيرة المعتمدة في المختبرات.

وفقاً للمختبرات، سيؤدي قرار وقف تمويل استيراد المستلزمات الطبيّة من قبل مصرف لبنان إلى رفع أسعار جميع المواد المستعملة في المختبرات لإجراء الفحوص. ما يعني أن جدول الأسعار المعتمد من قبل شركات التأمين لا يمكن أن يغطي تكاليف العمليات بعد اليوم. المختبرات حاولت في مراحل سابقة التفاهم مع شركات التأمين على جداول بديلة يمكن اعتمادها لإجراء الفحوص في لحظة وقف تمويل مصرف لبنان. لكن معظم شركات التأمين فضلت التريّث بانتظار القرار قبل إعادة درس الجداول. وهكذا، وجد المرضى أنفسهم اليوم أمام لحظة فقدان القدرة على إجراء الفحوص في معظم المختبرات، بعد أن اتخذت المختبرات هذه القرارات.

شركات التأمين: إلى التسعير بالدولار النقدي
معظم شركات التأمين، لم تكن قادرة قبل اليوم على التفاهم مع المختبرات الطبية والمستشفيات على جداول أسعار جديدة، يمكن أن تراعي كلفة العمليات والخدمات بعد رفع الدعم. السبب ببساطة هو أن الغالبية الساحقة من شركات التأمين مازالت تسعّر لعملائها البوالص بالدولار المحلي، أي بدولارات الشيكات المصرفيّة، فيما يقوم البعض الآخر من الشركات بتقسيم كلفة البوالص ما بين الدولار المصرفي والليرة اللبنانيّة وفقاً لسعر الصرف القديم. ولذلك، لم تكن شركات التأمين قادرة على تحمّل كلفة العمليات الطبيّة والفحوص في حال تسعيرها وفقاً لكلفة المستلزمات الطبيّة بالدولار النقدي. ولهذا السبب، لم تتفاهم معظم شركات التأمين مع المختبرات على جداول جديدة، ما أدى إلى قرار المختبرات الأخير.

خيارات شركات التأمين قليلة. فالموافقة على جداول التسعير الجديدة المعتمدة من المختبرات، وفقاً لسعر الدولار النقدي في السوق الموازية، سيعني تحميل شركات التأمين تكاليف غير متناسبة مع عوائد البوالص الموجودة لديها، ما يضعها أمام شبح الإفلاس الحتمي، خصوصاً أن كلفة الدولار النقدي في السوق الموازية اليوم تتجاوز الثلاث أضعاف قيمة الدولار المصرفي، في حال سحبه وفقاً لسعر صرف المنصّة.

الخيار الآخر، هو الانتقال تدريجيّاً إلى تسعير البوالص بالدولار النقدي. وهو ما قامت به أساساً عدة شركات تأمين منذ فترة، لكنّ هذه الشركات ستحتاج إلى حصر زبائنها بحلقة ضيقة من المواطنين القادرين على تحمّل هذه الكلفة الباهظة. علماً أن الشركات التي انتقلت إلى تسعير البوالص بالدولار النقدي راهنت على استهداف الطبقة التي تتقاضى رواتبها بالدولار الطازج، والتي ترغب بالتعامل مع شركات تأمين مضمونة، من ناحية القدرة على تغطية التكاليف الاستشفائيّة. وفي حال قررت معظم شركات التأمين الانتقال إلى هذا الخيار، وهذا هو المحتمل، فسيكون التأمين الصحي ترفاً لا تملكه إلا نخبة المجتمع.

في كل الحالات، ثمة مرحلة انتقاليّة بالنسبة إلى البوالص المعقودة أساساً، والتي سدد أصحابها ثمنها بالدولار المصرفي أو بصيغة تجمع الدولار المصرفي والليرة اللبنانيّة. فالشركات لن تكون قادرة على تغطية كلفة استشفاء أو فحوص أصحاب هذه البوالص وفقاً لكلفة الدولار النقدي، في حين أن أصحاب هذه البوالص يُفترض أن يستفيدوا من تغطية صحيّة وفقاً للعقود إلى حين استحقاق البوالص. ولهذا السبب، ترجّح مصادر إدارات شركات التأمين أن يتم التوصّل إلى حلول وسط، تكفل تغطية جزء من كلفة الاستشفاء أو الفحوص، حسب الأسعار القديمة، على أن يقوم المرضى بتغطية الفارق، كما يجري اليوم بالنسبة لمرضى الضمان الاجتماعي.

بين كل هذه الاحتمالات، ثمة مرحلة من الفوضى والتخبط ستسود في قطاع التأمين، إلى حين التوصّل لحلول نهائيّة بالنسبة لتسعيرة المختبرات، وطريقة دفع التكاليف، بالإضافة إلى كلفة البوالص نفسها.

مستوردو المستلزمات الطبيّة: خسائر بالجملة
طوال الأشهر الماضية، عمد مصرف لبنان إلى عرقلة ملفات الدعم ومراكمتها في أروقة المصرف، مراهناً على تقليص كلفة الدعم عبر تقنين عدد الملفات التي ينجزها يوميّاً. ولهذا السبب، ثمّة ملفات عالقة بعشرات ملايين الدولارات في الوقت الراهن لدى المصرف المركزي، بعضها يخص بضاعة وصلت إلى البلاد منذ أكثر من ستة أشهر، وجرى بيعها بالسعر المدعوم في السوق المحلي، في حين أن تأمين الدولارات بسعر الصرف الرسمي لسداد ثمنها لم يعد مضموناً. ولهذا السبب، تترقّب الشركات المستوردة للمستلزمات الطبيّة حالياً بانتظار اتضاح المشهد، وإحصاء خسائرها، خصوصاً إذا قرر المصرف المركزي الاستمرار بعرقلة ملفاتها المقدمة خلال المرحلة الماضية.

المشكلة الأخرى التي تواجهها الشركات المستوردة، تتعلّق بالطلبيات السابقة التي جرى تسجيلها لدى الشركات الموردة في الخارج، والتي جرى طلبها بناءً على حاجات المستشفيات والمختبرات الطبيّة في لبنان. الشركات المستوردة، ستحتاج إلى تسديد ثمن هذه البضاعة من لبنان بالدولار النقدي، بعد رفع الدعم، في حين أن بيع هذه المستلزمات محلياً لم يعد مضموناً وفقاً للأسعار الجديدة، خصوصاً أن المختبرات والمستشفيات تعاني حاليّاً من تراجع هائل في قدرتها الشرائيّة.

وبذلك، يصبح من الواضح أن شركات المستلزمات الطبيّة في طريقة لتلقي صفعة قاسية، علماً أن خروج بعض الشركات من السوق اللبناني سيعني فقدان القدرة على تأمين بعض المستلزمات التي تتخصص بها بعض الشركات، تماماً كما أدى شلل بعض شركات استيراد الأدوية إلى انقطاع بعض اللقاحات أو الأدوية الحساسة من السوق، كحال بعض لقاحات الأطفال الحساسة المقطوعة من الكثير من المستشفيات.

المستشفيات الحكوميّة: هل تتحمّل الضغط؟
عملياّ، ستؤدّي كل هذه التطورات إلى عزوف أصحاب الدخل المحدود عن التوجه إلى المستشفيات الخاصّة، خصوصاً أن التوجّه إلى هذه المستشفيات هو أساساً في أدنى مستوياته حاليّاً، بعد اتساع الفارق بين تسعيرة المستشفيات وتغطية الضمان الصحي. لكن المشكلة الأساسيّة هنا هي أن المستشفيات الحكوميّة غير مؤهلة في الوقت الحالي للعب هذا الدور، وبهذا الحجم من العمليات، خصوصاً بعد تحميلها خلال الأشهر الماضية وزر التعامل مع ملف كورونا في بيروت والمناطق. ولذلك، من الواضح أن البلاد متجهة إلى أزمة استشفائيّة ضخمة.

كل هذه التطورات مجرّد عوارض لغياب الإدارة الحكوميّة الفاعلة لملف الدعم طوال الأشهر الماضية. وهو ما أدى إلى الوصول إلى مرحلة استنزاف الاحتياطي القابل للاستخدام، من دون وجود أي بدائل أو تدابير كفيلة بتقليص آثار هذه المرحلة المدمّرة. الحكومة غائبة عن السمع، لا بل كان لافتاً تغيّب بعض وزرائها عن الاجتماعات المخصصة لمناقشة الملف، لاعتبارات سطحيّة، كحضور بعض المناسبات الاجتماعيّة الدبلوماسيّة. وهكذا، دفع لبنان كلفة هذا الاستهتار بالطريقة الأصعب.

المصدر: المدن

الوسوم: , , , ,

Posted in .